ملخص الكتاب
لم يحصل التعليم في تاريخه قط على الاهتمام الذي يحصل عليه حاليّاً؛ فنحن نشهد عصراً تعاظمت فيه أهمية المعرفة بشكل كبير، وصار اقتصاد القرن الحادي والعشرين اقتصاداً يعتمد على المعرفة وهيمنتها بشكل أساسي، وهو اقتصاد يقوم على أربعة أصول مهمة، وهي المعرفة التقنية والإبداع والذكاء والمعلومات، ويفوق هذا الاقتصاد في أهميته رأس المال والموارد الطبيعية والعمالة التي كانت أصول الاقتصاد التقليدي. وحتى يمكن الاستجابة لهذا النموذج المغاير، الذي يركز على الاقتصاد المعرفي، فإنه يلزم توفير مجموعة من العناصر المهمة، في مقدمتها عنصر الموارد البشرية المؤهلة، وذلك من خلال نظم تعليمية ناجعة، قادرة على تنمية رأس مال بشري أكثر قدرة على البحث والتطوير والابتكار، وإتقان المهارات التقنية الحديثة، وأكثر مواكبة لمطالب التنافسية الاقتصادية. وفي ضوء هذه الأهمية المحورية التي يحتلها التعليم في إعداد رأس المال البشري، صار تمويل التعليم والإنفاق عليه شاغلاً أساسياً لصناع السياسات التعليمية؛ وصار التعليم ينظر إليه بوصفه استثماراً إنتاجياً له عائد اقتصادي واجتماعي ملموس على المدى الطويل. وقد تأكدت أهمية الاستثمار في التعليم من خلال بحوث عائدات التعليم، التي بصَّرت المربين والسياسيين والاقتصاديين بمبررات الإنفاق على التعليم بالنظر إلى العائدات من التعليم التي يجنيها الفرد والمجتمع، ومساهمته في التنمية الاقتصادية والاجتماعية؛ فعلى المستوى الفردي، يتجلى أثر الاستثمار في التعليم عند المقارنة بين أجور الأشخاص المتعلمين وغير المتعلمين، وبين أجور حاملي الشهادات المختلفة وبعضهم بعضاً، ويطلق على هذا المقياس العائد الاجتماعي للاستثمار في التعليم. أما على الصعيد المجتمعي الأوسع، فإن التعليم يسهم في تحسين الموارد البشرية وتطويرها من خلال رفع كفاءاتهم وقدراتهم الذهنية، ومن ثم رفع إنتاجية القطاعات المختلفة للاقتصاد. ويختلف الاستثمار في التعليم من منظور التحليل الاقتصادي عن الاستثمار في القطاعات الإنتاجية والصناعية الأخرى، نظراً لاختلاف ماهية المنتج التعليمي؛ فاكتساب المعرفة مفهوم يصعب قياسه بدقة، هذا إلى جانب العوائد الأخرى غير المباشرة للتعليم التي تعود على المتعلمين بشكل شخصي، من مثل أنماط الفكر والسلوك والقيم. وخلافاً للمشروعات التجارية والصناعية الأخرى، فإن الهدف من التعليم ليس تعظيم الأرباح، وإنما توزيع موارده بأكبر ممكن من الفاعلية، والذي ينعكس في تنمية الفرد والمجتمع بشكل عام. وبالطبع فإن الوعي بهذه الأهمية الجوهرية للاستثمار في التعليم ودوره في تحديد مصير الأمم قد ألقى مزيداً من الأعباء على حكومات الدول، والتي تتباين آليات الإنفاق على التعليم ومصادره فيها، بتباين ظروفها الخاصة ومستوى التنمية الاقتصادية والسياسية المالية المتبعة بها، والمكانة التي يشغلها التعليم في عمليات التنمية بها. وقد أخذ هذا العبء يتفاقم بشكل واضح، خاصة بالنسبة للدول النامية، وبخاصة أن هناك خدمات عامة أخرى تنافس التعليم على الاستثمار بهذه الموارد. وقد تصدت الدول الأعضاء في مكتب التربية العربي لدول الخليج، كما هو الحال في كل الدول النامية، لأعباء التعليم أساساً بالاعتماد على الإنفاق الحكومي، خلال عقود طويلة، سعياً منها لتحقيق مكتسبات تعليمية تسمح بتعزيز مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية من خلال توفير التعليم للجميع وبجودة عالية. كما عملت على تفعيل هذا الاستثمار، من خلال اعتماد سياسات أكثر نضجاً وانفتاحاً، لا سيما من خلال السماح للقطاع الخاص المحلي والأجنبي بلعب أدوار أكبر في كافة المراحل التعليمية، مع الحرص على أن يكون التعليم في القطاع الخاص مرتبطاً بالسياسات والأهداف الحكومية لرؤيتها الوطنية لدور التعليم في توفير متطلبات سوق العمل في القطاعين العام والخاص. وقد أدت كل هذه الجهود إلى زيادة كبيرة في أعداد المسجلين في قطاعي التعليم الحكومي والخاص. إلا أنه من الملاحظ أن الاستثمار في التعليم في هذه الدول لم يستطع أن يحقق النتائج المرجوة منه، كما لم تؤدِ هذه الاستثمارات في التعليم إلى تحسن نوعي ملموس في رأس المال البشري على النحو الذي يسمح بتعزيز الإنتاجية، وتحقيق معدلات نمو اقتصادي أعلى، وتنويع اقتصاديات الدول الأعضاء بما يسمح باستدامة المكتسبات التنموية. ويمكن أن يعزى هذا إلى غياب الإدارة الكفؤة لتقليل الهدر في الموارد، والاستفادة بأقصى قدر ممكن من الاستثمار في القطاع الخاص والأهلي، وإلى المركزية الشديدة للتعليم، وعدم إعطاء الاستقلالية اللازمة للإدارات المحلية، وقطاعات البحوث التربوية والتقييم التربوي، فضلاً عن عدم وجود إستراتيجيات واضحة لتعزيز مواءمة المخرجات التعليمية مع الحاجات التنموية وسوق العمل.